تعرف أكثر على الضوء

كان الإعتقاد السائد قديما عن الرؤية أنها عبارة عن قدرة للعين ،فلقد ظن العالم الإغريقي فيثاغورس أن العين عندما تنظر إلى شيءفإنها ترسل الأشعة وتكون عبارة عن إشارة تسقط على الجسم فيصبح مرئيا ، وكذلك خلط اليوناني امبيدوكليس صاحب نظرية المكونات الأربعة للكون بين مفهومين متضاربين :الأول أن الضوء مادة متدفقة مصدرها الشمس والثاني أننا نرى الأشياء لأن العين تبعث بأشعة ضوئية فنبصرها .
كما اتبعهم أفلاطون في فكرة اصدار العين إشارة للرؤية ، ثم جاء تلميذه أرسطو فأضاف إلى مكونات الكون الأربعة مكون خامس وهو الأثير الشفاف either الذي تتواجد فيه كل الأشياء والأحياء ، وقال إن الضوء هو نشاط ( مثل التموجات التي يحدثها الحجر عند إلقائه في الماء ) تحدثه الشمس في الأثير فينتج الضوء واللون ، ورغم اتباعه لفكرة خروج أشعة الرؤية من العين إلا أنه أول من شكك في ذلك في قوله إن كانت الحقيقة كذلك فنحن نستطيع حينها أن نرى الأشياء في الظلام .
منذ قديم الزمان حاول العلماء معرفة حقيقة وكنه الضوء فظهر علم البصريات optics وهو علم يدرس ظواهر انتشار الضوء ، وكان أرسطو من أوائل العلماء المشتغلين بهذا العلم ، فقد وجد في كتاباته وصف للغرفة المظلمة ذات الثقب camera abscura مع شرح جيد لاعتماد مقاييس الصورة المتكونة على ستار خلفية الغرفة على بعد الجسم وبعد الستار عن الثقب ، كما درس عالم الهندسة إقليدس البصريات وقوانين الإنعكاس .
وتدعو الظواهر التي يدرسها علم البصريات ـ مثل انتشار الضوء في خطوط مستقيمة كأشعة ، والانعكاس والانكسار ، وأشكال الظل ـ إلى فكرة أن الضوء عبارة عن جسيمات دقيقة تتحرك بسرعة هائلة .
وكان أمبيدوكليس أول من شك في محدودية سرعة الضوء انطلاقا من ملاحظة الوميض الضوئي للبرق قبل سماع صوت الرعد المرتبط به ، مما دعاه للظن بأن للضوء والصوت سرعتين محدودتين ( على عكس الاعتقاد السائد في ذلك الوقت ) إلا أن سرعة الصوت أقل كثيرا ، وهذه الدراسات تصب في مصلحة نظرية الطبيعة الجسيمية للضوء .
وقبل التعرض إلى التنافس بين نظريتي الطبيعة الجسيمية والطبيعة الموجية للضوء ، سوف نتعرض باختصار إلى محاولات قياس سرعة الضوء ، وكالعادة حاول الدارسون قياس الزمن الذي يقطع خلاله الضوء مسافة معينة فكانت المحاولات الأولى بوقوف شخصين على قمتي تلين يحمل كل منهما مصباحا مزودا بغطاء معتم ، يرفع الأول غطاء مصباحه وعندما يراه الثاني يرفع غطاء مصباحه ، فيغطي الأول مصباحه عندما يرى مصباح الثاني ، وبقسمة ضعف المسافة بين قمتي التلين على الزمن الذي ظل خلاله المصباح الأول مفتوحا تُحسب السرعة .
وبالتأكيد فشلت تلك المحاولات والسبب ( بطء الاستجابة في الرؤية ، وحركتي الغلق والفتح ، تجعل تقدير زمن قطع الضوء لهذه الممسافة مستحيلا ، إذ إن هذا الزمن حوالي 6 ميكروثانية ( 6 من مليون جزء من الثانية ) ، حتى ابن الهيثم عالم البصريات لم ينجح في تجاربه المماثلة التي أجراها في نهاية الألفية الميلادية الأولى وبداية الثانية ، على الرغم من أنه أحد أعظم علماء البصريات بل والعلوم الطبيعية عموما ، إذ درس نظريا وتجريبيا ظواهر انتشار الضوء وظواهر الانعكاس والانكسار ، وترك أعمال علمية متكاملة نهل منها علماء الغرب في عصر النهضة ، وكذلك فشلت التجربة المحسنة لنفس الفكرة التي أجراها العالم الفيلسوف الهولندي اسحق بيكهام ، عندما وضع على قمة تل مدفعا وعلى قمة تل آخر على بعد حوالي كيلومترين مرآة كبيرة ، وقاس الزمن بين لحظتي إطلاق المدفع ورؤية انعكاس وميض الطلقة .
بدأت أول القياسات الناجحة عام 1676، عندما درس العالم الدانمركي ( رومر ) أثناء عمله في مرصد باريس الفلكي حركة أقرب أقمار المشترى إلى الكوكب ( ويعرف باسم أيو IO ) ، ووجد أن زمن دورته حول المشترى تبدو أقصر أثناء اقتراب الأرض من المشترى وتبدو أطول أثناء الابتعاد .
ومن نتائج رومر حسب عالم الرياضيات الهولندي هايجنز سرعة الضوء بمعرفة قطر مدار الأرض حول الشمس والفرق بين قيمتي زمن دورة القمر أيو المقدرتين في أقصى وضعين للأرض في مدارها ، فتصل إلى القيمة 220 ألف كيلومتر في الثانية وهي نتيجة ممتازة لذلك الوقت ، إذ تنقص عن سرعة الضوء الفعلية بحوالي الربع فقط ، حيث القيمة المعتمدة حاليا لسرعة الضوء في الفراغ هي 229792458 مترا في الثانية أي حوالي 300 ألف كيلومتر في الثانية .
 
نتعرض بعد ذلك إلى السؤال الذي أثار الفضول كثيرا وهو : هل الضوء أمواج أم جسيمات ؟ منذ فجر تاريخ العلوم وتأسيسا على ظواهر انتشار الضوء وانكساره وانعكاسه ، كانت الغلبة لنظرية الطبيعة الجسيمية للضوء ، وظلت هذه النظرية مسيطرة وتأكد تسيدها خلال دراسات البصريات والفلك التي طورها علماء عصر النهضة ( آخذين ما وصل إليه علماء المشرق الإسلامي مثل ابن الهيثم ) البولندي كوبرنيكوس وشهيد العلم الإيطالي برونو والألماني كبلر والإيطالي جاليليو الذي كاد أن يلحق بمصير برونو والفرنسي بيير جاسيندي وعالم الفيزياء والرياضيات نيوتن الذي زاد عن النظرية الجسيمية للضوء بضراوة معتمدا على مكانته العلمية العظيمة رغم بدء ظهور أفكار محترمة عن النظرية الموجية للضوء ورغم تجاربه هو شخصيا في تحليل الضوء الأبيض بواسطة منشور prism زجاجي إلى الطيف الملون المعروف ذلك في مقالته الشهيرة نظرية الضوء وكتابه الشهير البصريات المنشور باللاتينية . كان الفيلسوف عالم الرياضيات الفرنسي رينيه ديكارت هو أول من أشار إلى افتراض أن للضوء طبيعة موجية ، إلا أن أهم مؤسسي النظرية الموجية هما عالم الفيزياء والرياضيات والكيمياء الانجليزي روبرت هوك الخصم اللدود لنيوتن ، وأبو النظرية الموجية للضوء عالم الرياضيات والفلك الهولندي كريستيان هايجنز ؛ وقد اقترح العالم روبرت هوك ( نظرية النبضات pulse Theory ) وفكرة أن ذبذبات هذه النبضات عمودية على اتجاه انتشار الضوء ، وصاغ الثاني أول تمثيل رياضي للنظرية الموجية للضوء في كتابه ( رسالة عن الضوء Treatise On Light ( ، وظل هذا الصراع بين الطبيعتين الجسيمية والموجية للضوء محتدما خلال القرن الثامن عشر مع غلبة نسبية للنظرية الجسيمية ، حتى جاء العالم الإنجليزي توماس يونغ وأجرى تجربة تداخل الضوء المشهورة باسم تجربة الشقين Double Slit Experiment في بداية القرن التاسع عشر ، وفي هذه التجربة يمرر الضوء وحيد اللون من مصدر نقطي خلال شقين متقاربين ضيقين في حاجز معتم ، وتدرس الصورة المتكونة على شاشة على الجانب الآخر من الحاجز ، فوجد أنها تتكون من بقع مضيئة ومعتمة على التوالي سميت تركيبة حيود ، ويستحيل تفسير نتائج هذه التجربة إلا بالنظرية الموجية . كما أكد عالم أكد عالم الفيزياء والرياضيات الفرنسي فرسنيل نظريا أن خاصية الاستقطاب في الضوء لا يمكن تفسيرها إلا باعتبار الضوء . واستكمل عالم الرياضيات والفيزياء الاسكتلندي جيمس ماكسويل منظومة المعادلات الرياضية الخاصة بالموجات الكهرومغناطيسية بشكل شبه مثالي في كتابه ( نظرية ديناميكية عن المجال الكهرومغناطيسي A Dynamic Theory of the Electromagnetic Field . وبذلك رسخت هذه النظرة واعتبر الضوء عبارة عن موجات كهرومغناطيسية عرضية تنتشر كأشعة ، ويحمل الشعاع مجالين أحدهما كهربائي والآخر مغناطيسي متذبذبين ومتعامدين على بعضهما البعض وعلى اتجاه الشعاع ، وتردد هذه الذبذبات يتناسب عكسيا مع طول الموجة بحيث أن حاصل ضرب الأخيرة في قيمة التردد يعطي سرعة انتشار الضوء أو الأشعة الكهرومغناطيسية عموما علما بأن أطوال هذه الموجات تتراوح بين مئات ملايين الأمتار ، وهي أطوال موجات الراديو الطويلة وعدة أتومترات ( الأتومتر واحد من مليار مليار جزء من المتر ) التي تمثل أقصر موجات أشعة أشعة جاما عالية الطاقة ، ويمثل طيف الضوء المرئي جزء بالغ الصغر من طيف الموجات الكهرومغناطيسية من 740 نانومتر لأطول موجات الأحمر إلى 380 نانومتر لأقصر موجات البنفسجي ( النانومتر واحد من مليار جزء من المتر ) . وهكذا كان القرن التاسع عشر هو حقبة السيادة التامة للنظرية الموجية ، واعتقد الجميع أن نظرية الطبيعة الجسيمية للضوء قد استسلمت للهزيمة دون رجعة ، وكانت المشكلة الوحيدة التي تواجه النظرية الموجية هي موضوع الوسط الشفاف ( الأثير ) الذي ساد الاعتقاد في ضرورة تواجده لتنتشر خلاله الموجات الكهرومغناطيسية ، بل وتتواجد فيه كل الأشياء ، ومع محاولات دراسة الأثير وجد أنه لابد وأن يتميز بصفات متضاربة فيجب أن يكون صلد تماما أكثر صلابة من الصلب ، وفي نفس الوقت عديم الكتلة والكثافة واللزوجة . وقد درس الفيزيائي الهولندي لورنتز انتشار الموجات الكهرومغناطيسية في إطار مرجعية مختلفة ، وطور نظريات الأثير ببناء منظومة معادلاته للتحويل واضعا الأسس التي بنى عليها اينشتين نظريتيه للنسبية الخاصة والعامة . وسوف نكمل هذا الموضوع ( الضوء ) في مقال آخر تحت عنوان ( الضوء وفيزياء الكم ) فانتظرونا

0 التعليقات:

إرسال تعليق